(العلماء ورثت الانبياء ) وسفينة النجاة من الفتن
اخواني السلام عليكم عن الإمام الهادي عليه السلام: (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابّين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)( الاحتجاج ١: ٩.) وعن زرارة بن أعين، عن الإمام الصادق عليه السلام حين حديثه عن الحجَّة المنتظر عليه السلام: (وهو المنتظر غير أنَّ الله عز وجل يحبّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة)، قال: قلت: جُعلت فداك، إن أدركت ذلك الزمان أيّ شيء أعمل؟ قال: (يا زرارة، إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: اللّهمّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللّهمّ عرِّفني رسولك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني رسولك لم أعرف حجَّتك، اللّهمّ عرِّفني حجَّتك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني).........اخواني.ظهرت في الآونة الأخيرة ادعاءات السفارة للإمام المهدي (عليه السلام) بل يدّعي البعض انه الإمام المنتظر، في حين لم يلق هؤلاء رادعاً قوياً وبياناً واضحاً من مصادر الفتيا والعلم، وقد استغل هؤلاء انعدام المعايير الصحيحة لدى عامة الناس، نتيجة الجهل، والتجهيل المتعمد من قبل الظالمين، والفقر، وانفلات الوضع الأمني، الذي ابتليت به أمّة المسلمين عموماً وفي العراق بالخصوص.وقد بان بطلان وفضيحة من ادعى ذلك في زمن الغيبة الكبرى بعد السفير الرابع أبي الحسن علي بن محمد السمري (رضوان الله عليه) وبقي بعض لم يتبيّن للناس زيفه، . اخواني يتضح لنا من هذا أنَّ المجتمع الشيعي يتعرَّض إلى عملية تمحيص في زمن الغيبة، لا بدَّ من بيان حقيقة هذا التمحيص وماهيَّته ليكون المؤمن على أُهبةٍ واستعدادٍ وحذرٍ.فنقول: إنَّ هذا التمحيص في زمن الغيبة على مستويين:المستوى الأوَّل: التمحيص السلوكي، حيث يُمَحَّصُ الناسُ من خلال غرائزهم وشهواتهم، ليُعْلَمَ من الذي ينقاد لشهواته وغرائزه ومن الذي يتجرَّد منها، فنحن نعيش في زمان ثورةٍ غرائزيَّةٍ من خلال توفّر سبل الإثارة للغرائز والشهوات، وزمان الثورة الغرائزيَّة هو زمان عملية التمحيص السلوكي للناس من خلال غرائزهم.وقد وردت الروايات الشريفة التي تشير إلى هذا النوع من التمحيص، كما في الخبر الطويل الذي يرويه الشيخ الكليني في الكافي الشريف عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: (مَنْ انتظر أمرَنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف فهو غداً في زمرتنا، إذا رأيتَ الحقَّ قد مات وذهب أهلُه، ورأيتَ القمارَ قد ظهر، ورأيتَ الشرابَ يُباع جهاراً وليس له مانعٌ، ورأيتَ النساءَ يبذلن أنفسَهنَّ لأهل الكفر، ورأيتَ الملاهي قد ظهرت لا يجرؤ أحدٌ على منعها، ورأيتَ الدماءَ قد اسْتُخِفَّ بها، ورأيتَ الناسَ قد تساووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتديّن به، فكن على حذر واطلب إلى الله عز وجل النجاة، واعلم أنَّ الناس في سخط الله عز وجل وإنَّما يُمهلهم لأمر يُراد بهم، فكن مترقِّباً واجتهد ليراك الله عز وجل في خلاف ما هم عليه)( الكافي ٨: ٣٦ - ٤٢، نقلناه بتصرّف.).فهذه الرواية الشريفة _ وأمثالها _ تتحدَّث عن عملية تمحيصٍ سلوكي، وتُبيِّن أنَّ الناس سيتعرَّضون إلى موجبات الإثارة والمفاتن الدنيويَّة على أشدّها، والذي يُشرَّفُ برؤية الإمام ونصرته هو مَنْ يتجاوز التمحيص السلوكي بنجاح.المستوى الثاني: التمحيص الفكري، وهو المستوى الأخطر والأشدّ؛ لأنَّ الناس لا يلتفتون إليه عادةً، فالمجتمع الشيعي سيُمَحَّصُ في بصيرته وعقائده وأفكاره، وستنتشر الراياتُ الضالّة والأفكارُ المنحرفةُ والشبهاتُ باسم الدين، ولا يخرج من هذه العملية إلَّا صاحبُ الوعي والبصيرة.ويشهد لذلك ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (الحادي عشر من ولدي، هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، تكون له غيبة وحيرة، يضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون)( الكافي ١: ٣٣٨؛ كمال الدين: ٢٨٩؛ الغيبة للنعماني: ٦٩؛ الغيبة للشيخ الطوسي: ٣٣٦.).فإنَّ التعبير فيها بالضلال والاهتداء واضح الدلالة على التمحيص في البصائر والدين.والمتحصِّل: أنَّ التمحيص الذي يمرُّ به العالمُ الشيعي على مستويين، سلوكي وفكري، والثاني يشكل امتحاناً أخطر من الأوَّل إذ هو مرتبط بدين الناس وبصائرهم، وسيظهر من يرفع الرايات باسم الإمام المنتظر ويدَّعي السفارة والنيابة والارتباط به عليه السلام، ومن ينصاع لهؤلاء فقد وقع في هاوية الجحيم.اخواني ان الهدف من عملية التمحيص:هوإنَّ المراجع لآيات القرآن الكريم يقف على حقيقة غير قابلة للإنكار والتشكيك، بل هي سُنَّة تكوينية لا بدَّ وأن تتحقَّق في كلِّ مجتمع من المجتمعات، من المجتمع الآدمي الأوَّل الذي شمل آدم وبنيه، إلى آخر يوم من أيّام الدنيا، وهي عملية التمحيص التي لا تختلف ولا تتخلَّف، وهذا ما صدحت به آيات الذكر الحكيم، كما في قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (العنكبوت: ٢ و٣).ولسنا بحاجة لإقامة الشواهد الكثيرة للتدليل على هذه الحقيقة، وإنَّما نحن بحاجة لمعرفة الهدف منها، فلماذا جعل الله تبارك وتعالى عملية التمحيص سُنَّة تأريخية اجتماعية تكوينية لا بدَّ أن يمرَّ بها كلّ مجتمع؟والجواب عن ذلك بأن يُقال: إنَّ الله تبارك وتعالى جعل للعباد مراتب ومواقع ومناصب ودرجات، لا ينالها أحدهم إلَّا بعد الارتقاء في سُلَّم الكمال ودرجاته، وهذا الارتقاء لا يكون إلَّا بالتمحيص والابتلاء.إذا اتَّضح أنَّ التمحيص عموماً إنَّما هو من أجل التأهيل لسموّ الموقع، يتَّضح الكلام فيما نحن فيه، فإنَّ صحبة الإمام المهدي عليه السلام ونصرته من المقامات الشامخة، وعليه فلا بدَّ للارتقاء لها من المرور بعملية التمحيص.وتفصيل ذلك: أنَّ موقعها ورتبتها عند الله عز وجل ممَّا يُحيِّر العقول ويُدهشها، وقد وردت روايات متعدّدة في فضل أصحاب الإمام المنتظر عليه السلام ومقامهم العالي.منها: ما رواه شيخنا الصدوق رحمه الله في كمال الدين وتمام النعمة بسنده إلى إمامنا باقر العلوم عليه السلام: (كأنّي بأصحاب القائم عليه السلام وقد أحاطوا بما بين الخافقين، فليس من شيء إلَّا وهو مطيع لهم حتَّى سباع الأرض وسباع الطير، يطلب رضاهم في كلِّ شيء، حتَّى تفخر الأرض على الأرض وتقول: مرَّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم عليه السلام)( كمال الدين: ٦٧٣.).
وبناءً على ما تقدَّم، وبمقتضى قانون التجانس والتناسب العقلائي، فإنَّ مقاماً كهذا المقام، ومنزلةً كهذه المنزلة، لا بدَّ وأن لا تُنال إلَّا بشقِّ الأنفس، وبطيّ تلك الاختبارات والابتلاءات، وبالصبر أمام ذلك التمحيص بما يناسب عظمة المقام، ويشهد لذلك ما جاء عن إمامنا الصادق عليه السلام: (من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة)( الغيبة للنعماني: ٢٠٧).اخواني فماهي وظيفة المؤمن في مرحلة التمحيص الوظيفة الأُولى: الحذر من أئمّة الضلال وأدعياء المهدوية:وقد ركَّزت الروايات الشريفة على هذا الأمر كثيراً، فمنها: صحيحة أبي خديجة، عن إمامنا الصادق عليه السلام أنَّه قال: (لا يخرج القائم حتَّى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلّهم يدعو إلى نفسه)( الغيبة للشيخ الطوسي: ٤٣٧؛ الإرشاد للمفيد ٢: ٣٧٢.).والحاصل: أنَّ هنالك حالة من الضبابية تسود في مرحلة التمحيص، وينبغي على الإنسان أن يكون حذراً يقظاً ذا بصيرة في التعامل مع الأحداث المرتبطة بظهور الإمام عليه السلام.الوظيفة الثانية: التمسّك بالفقهاء والعلماء:والملاحظ عند التدقيق في سيرة أهل البيت عليهم السلام، وبالأخصّ ما جاء عن الأئمّة المتأخّرين عليهم السلام ابتداءً بإمامنا الجواد وانتهاءً بإمامنا العسكري عليهم السلام، هو دورهم الواضح والكبير في التمهيد لغيبة الإمام المهدي عليه السلام باعتبار أنَّها ظاهرة جديدة غير مألوفة للشيعة الذين اعتادوا على أن يكون الإمامُ بين أيديهم.ومِنْ جملة الإعدادات التي ركَّز عليها الأئمَّة المتأخّرون عليهم السلام: تحديد المرجعية الدينية التي يرجع إليها الناس في أُمور دينهم في زمن غيبة الإمام المهدي عليه السلام. والروايات في هذا الشأن _ أعني تركيز الأئمَّة عليهم السلام على الفقهاء ودورهم _ كثيرة ومتعدّدة، ويمكن تصنيفها إلى طائفتين:
الطائفة الأُولى: الروايات التي تتحدَّث عن فضل العلم والعلماء على نحو العموم دون أن تتحدَّث عن فترة زمنية خاصّة يمرُّ بها العلماء.
منها: صحيحة القدّاح، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء)( الكافي ١: ٣٤.).
وعنه عليه السلام: (الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)( الكافي ١: ٣٣.).
وعنه عليه السلام: (العلماء أُمناء، الأتقياء حصون، والأوصياء سادة)( الكافي ١: ٣٣.).والروايات في هذا الشأن كثيرة جدَّاً.
الطائفة الثانية: الروايات التي تتحدَّث عن فضل العلم والعلماء في فترة زمنية خاصّة وهي التي عبَّرنا عنها بمرحلة التمحيص.فمنها: ما ورد عن إمامنا الجواد عليه السلام أنَّه قال: (من تكفَّل بأيتام آل محمّد المنقطعين عن إمامهم المتحيّرين في جهلهم الأُسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين بردّ وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربّهم ودليل أئمَّتهم ليفضلون عند الله تعالى على العبّاد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء)( الاحتجاج ١: ٩.).ومنها: ما روي عن الإمام الهادي عليه السلام: (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابّين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل)( الاحتجاج ١: ٩.).ومنها: ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام: (فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يُقلِّدوه)( الاحتجاج ٢: ٢٦٣.).ولمَّا وصلت النوبة إلى إمامنا المنتظر عليه السلام كتب في التوقيع الرفيع لسفيره المقدَّس الشيخ محمّد بن عثمان العمري قدس سره: (وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم)( كمال الدين: ٤٨٥)،( راجع المجلَّد الثاني من البحار للعلَّامة الأجلّ المجلسي رحمه الله حيث عقد هناك أبواباً متعدِّدة وأورد فيها الروايات الشريفة المرتبطة بالمقام.).والمتحصِّل من ذلك كلّه: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام وخصوصاً المتأخّرين أسَّسوا لمرجعية دينية للفقهاء من شيعتهم _ في زمن الغيبة للإمام عليه السلام _ يرجع إليها الناس، ومن هنا تعرف أنَّ ما جرت عليه سيرة الشيعة الإمامية (أعلى الله كلمتهم) من الرجوع إلى الفقهاء والمراجع العظام إنَّما هو استجابةٌ لما أراده الأئمَّة عليهم السلام. وعليه: فلا يُصغى لأيِّ دعوى زائفة كالدعاوى التي يُردِّدها بعض الضالّين والمغرضين من التحذير من المراجع العظام واتّهامهم بالضلال معاذ الله، فهذا خلاف المشروع الذي أسَّس له أئمَّة الحق عليهم السلام.الوظيفة الثالثة: التسلّح المعرفي:وقد ركَّزت الروايات الشريفة على هذه الوظيفة تركيزاً بالغاً يكشف عن أهمّية هذه الوظيفة وحسّاسيتها، فمنها:ما عن عمرو بن أبان، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (اعرف العلامة فإذا عرفته لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر، إنَّ الله عز وجل يقول: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء: ٧١)، فمن عرف إمامه كان كمن كان في فسطاط المنتظر عليه السلام)( الكافي ١: ٣٧٢؛ الغيبة للنعماني: ٣٥٢.).وعن زرارة بن أعين، عن الإمام الصادق عليه السلام حين حديثه عن الحجَّة المنتظر عليه السلام: (وهو المنتظر غير أنَّ الله عز وجل يحبّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة)، قال: قلت: جُعلت فداك، إن أدركت ذلك الزمان أيّ شيء أعمل؟ قال: (يا زرارة، إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: اللّهمّ عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللّهمّ عرِّفني رسولك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني رسولك لم أعرف حجَّتك، اللّهمّ عرِّفني حجَّتك، فإنَّك إن لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني)( الكافي ١: ٣٣٧.).